حدّثتنا أم العيد فقالت: في زمان ليس
بقريب، كان يسكن قريتنا رجل يقال له "أبو الأسفار"، قضى معظم أيام حياته
في الترحال ومكابدة الأخطار واستقصاء الأخبار. فكان لا يهنأ بالا، ولا يرتاح حالا
إلا أذا ركب البحر وتوغل في البر، فكان دائما بعد عودته يجمع سكان القرية، ويخبرهم
برحلته وأحوال البلدان التي زارها، وغرائب أهلها وعجائب بنيانها. وفيه ما قال
الشاعر:
"سافر تجد عوضا عمن تفارقه وانصب فإن لذيذ
العيش في النصب
ما في المقام لذي لب وذي أدب معزة فاترك الأوطان
واغترب
إني رأيت وقوف الماء يفسده فان جرى طاب أو لم
يجر لم يطب"
وذات يوم بعدما عاد من سفره اجتمع سكان
القرية في مجلسه، فأخذ يحدثهم بما لاقاه من مصائب وأهوال وعجائب الأحوال، فقال: «وفي رحلتي هذه ركبت البحر أنا ومجموعة من التجار قاصدين بلادا بعيدة، فمكثنا
في البحر أياما عديدة، حتى حسبنا أننا ظللنا طريقنا، ونفذت مؤونتنا، فلم يعد لنا
في تلك الأثناء إلا الالتجاء إلى الله بالدعاء، وصبرنا يومان حتى إذا أصبح اليوم
الثالثُ لمحنا جبالا تتلألؤ تحت ضوء السنا، فاتجهنا صوبها فإذا هي مدينة تحيط بها
الجبال من ثلاث جهات والبحر رابعها، يحسب الناظر إليها أنها جنة من عظيم بنيانها،
واختلاف أشجارها، وطبيعة أهلها. فأقمنا فيها ثلاث ليالي ولما أقبل اليوم التالي
تأهب التجار للعودة بعدما باعوا ما جلبوا معهم من بضائع واشتروا بضائع جديدة، ودعتهم وقمت أجول في المدينة وأسواقها،
وأمشي في أزقتها ودروبها، وأستقصي أخبار أهلها ، فقابلني رجل عجوز وسألني عن حالي
فعرف أني غريب عن الديار، فرحب بي في بيته وأطعمني من زاده ومؤونته، فأنس بي
وألفته وأعطيته من مالي وشكرته، وما أن أصبح الصباح حتى أخذني إلى البحر وأوصى علي
الصيادين أن يعلموني حرفتهم، فتعلمت الصيد، وصرت أمضي كل صباح إلى البحر أصطاد
وأبيع في السوق ما اصطدته، وأشتري بثمنه ما احتاج إليه، وأعطي للشيخ نصيبه، ودام
بي الحال على هذا المنوال، فمكثت في المدينة سنة أو بعضها وطاب لي العيش فيها،
وصعب علي فراق أهلها. وذات يوم بينما كنت وجماعة الصيادين نصطاد في البحر إذ هاجت
أمواجه، وجلسنا في الشاطئ ننتظر استقراره، وإذا به ينقسم إلى نصفين فخرج منه ثور
هائج أسود اللون عظيم الخلقة ذو قرنين عريضين، فأخذنا الخوف والفزع، وتملكنا الرعب
و الهلع، وتشتتنا في الأرض، ففينا من صعد الجبال، ومنا من تسلق الأشجار، أو اختبأ خلف
الصخور والأحجار، وكنت أنا من جملة من صعد الجبال، فأمسينا نراقب الثور وهو يدمر
الأشجار ويخرب الديار، ويقتل الكبار ويشرد الصغار، ولما أخذه التعب عاد من حيث أتى
فدخل في البحر وغاب عن الأنظار، فأخذتنا الدهشة مما رأينا ولم نعلم بما ابتلينا،
فتوجهنا إلى المدينة والحزن يآخذنا، ودعونا الله أن يفرج كربتنا ويزيل عنا ما ألمّ
بنا، فصار الثور يطلع من البحر كل صباح، ويهدم ما أصلحنا، ويقتل أهلنا وأصحابنا،
وضاق بنا الحال، ولم نصبر على الأهوال، فهاجر من سكان المدينة من هاجر، وبقي من
استسلم للقدر وتشبث بالأرض وأبى السفر.
وفي مساء يوم من الأيام اجتمعت وأهالي
المدينة نتفكر في أمرنا، وما ألت إليه حالنا. فقررنا أن نحفر خندقا أمام البحر حتى
إذا اقبل الثور سقط في الخندق واندثر، فبتنا ليلتنا ننفذ خطتنا، ولما أشرق الصبح
كنا قد أنهينا حفرنا، وصعدنا الجبل وصرنا ننتظر مجيء الثور، وما هي إلا لحظات حتى
هاج البحر وخرج الثور، وتقدم نحو الشاطئ، وما إن اقبل على الخندق حتى سقط فيه
وهلك. فحمدنا الله على خلاصنا واستجابة دعائنا، فبنينا الديار وغرسنا الأشجار،
وأصلحنا ما قد لحقه الدمار، ولم يمض على الحادث سوى أيام حتى اشتاقت نفسي للرجوع،
فانتظرت قدوم سفينة من بلادنا، وجهزت حالي وودعت الشيخ والأهالي، وشكرتهم على
الضيافة والمودة، وركبت البحر من جديد طالبا العودة. »